هذا المقال موجه للنخبة من الذين سألني بعضهم عن نظرتي التفكيكية للمشهد الحالي الذي يكتنفه الغموض..
1- أهمية النظرية لبناء جزائر جديدة .
سألني بعضهم : ما الذي تنقم عليه في هذه المرحلة الحرجة من تحركات السلطة؟ ، فأجبتُ باختصار ( غياب النظرية) ..
سأعطي مثلا ليفهم القارئ :
لو أتينا بأربعة بنائين وطلبنا منهم بناء أربعة جدران دون تنسيق بينهم ، فسيبني كل واحد منهم جدارا ، وفي الأخير لن نجد غرفة ، لأن كل جدار مستقل عن الآخر ..
لكن لو أرجعنا الأمر إلى مهندس ، لوضع نظرية للغرفة ، ونسّق جهد البنائين ليصب في بناء غرفة ..
هذا هو الفرق بين أن تكون لك نظرية ، وأن لا تكون ..
......................................................
2- هل تملك السلطة الحالية نظرية ؟
ما يحدث الآن هو إنجاز عناصر ميدانية ، دون وجود نظرية سياسية متكاملة يكون التحرك في إطارها ..
لاحظوا جيدا :
السعودية وحلفاؤها حاولوا منذ سنتين تقريبا إنهاء النموذج الحالي لدولة قطر .. يكتشفون بعد ذلك أن وجود تركيا يعني استمرار وجود قطر .. يعودون إلى نظرية (الدومينو) التي اعتمدها الأمريكيون بعد الحرب العالمية لتفكيك الدول الشيوعية في جنوب شرق آسيا عبر إسقاط ( الحجر الأول) الذي هو الصين .. وبذلك فقد قررت السعودية وحلفاؤها إنهاء تركيا أردوغان باعتبار نهايتها ستكون نهاية لكل جماعات الإخوان في ليبيا وفلسطين والعراق وقطر ومصر وغيرها .. لأن كل هذه الجماعات ليست سوى ( أطراف) للمركز ( التركي) ..
لذلك كان التركيز على تدمير تركيا ، بما نراه اليوم من انشقاقات في حزب أردوغان ، ومن فقدان للنفوذ الانتخابي في مدن مصيرية مثل إسطنبول التي خسرها حزب أردوغان لصالح ( إمام أوغلو) .. ومن تورط في الملف السوري الذي استدرجت إليه تركيا عبر نظرية بريجنسكي ( البلقان الأوراسية) تماما كما استدرجت بولندا للتدخل في الشأن الأوكراني.. في إطار خطة أمريكية.. وهي النظرية نفسها التي يتم بها اليوم إتعاب إيران ، لإضعاف روسيا .. وما يحدث اليوم حول مضيق هرمز كله جزء من لعبة أمريكية في البلقان..
مشكلة السلطة اليوم أنّها تلعب أكثر على الجانب ( الأيديولوجي) .. بتكثيف الارتكاز على الجانب الثقافي النوفمبري والباديسي والهوية، ومحاربة الفرنسية ، و...
وكل هذا جيّد في الحصول على دعم شعبي واسع ، لكنّ المعطى الأيديولوجي لا يصلح أن يكون نظرية .. لذلك نجد بريجنسكي طوال عقود من الزمن ينصح الأمريكيين بوجوب التعامل مع المصالح الأميركية في العالم من الزاويتين الإستراتيجية والعملية وليس الأيديولوجية.
لأنّ شبكة العلاقات الدولية اليوم ، مبنية على الاستراتيجات ، لا على الأيديولوجيا .. ونجاح أي دولة يكون بمقدار فهمها لشبكة الاستراتيجيا العالمية واندماجها فيها ..
فهل تملك السلطة اليوم نظرية دقيقة متكاملة ، ينسجم فيها التحرك الداخلي مع المعطيات الإقليمية والعالمية ؟
هل استطاعت السلطة أن تحدد خريطة النفوذ التي حولها ؟
هل استطاعت ضبط قائمة خصومها وحلفائها الخارجيين ، بناء على ما تقوم به في الداخل ؟
هل استطاعت أن بناء برنامج مدروس الخطوات ، يبدأ بكذا وينتهي إلى كذا ؟
هل استطاعت الإجابة على الأسئلة الخطيرة للاحتمالات التي قد تعترضها أثناء التطبيق والتي تدور حول السؤال( ماذا لو أنّ...؟)..
وهل استطاعت السلطة اختيار الحليف البديل لفرنسا ؟ هل يكون هذا الحليف أمريكا التي أظهر سفيرها بعض ما يعطي إشارات على أن بلاده تقترب من أن تكون بديلا لفرنسا للجزائر ؟ مع الأخذ بعين الاعتبار سياسة الجشع والابتزاز التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية تجاه كل من يدخل في شراكة معها ، مع تحويل تلك الشراكة إلى شراكة عسكرية ..
وهل يمكن الادعاء أن روسيا ستكون حليفا لجزائر ، مع وجود حلف مع أمريكا ؟
وهل يكفي للدخول في القطب الأنجلوكوني أن نتحدث عن خطوات هي أقرب للدعاية والمناكفة منها إلى معنى الاستراتيجيا ، مثل استيراد السيارات الألمانية بدل الفرنسية ، وإحلال اللغة الأنجليزية بدل الفرنسية ؟ أم أن الأمر بحاجة إلى إعادة رسم لشبكة علاقات للجزائر تجاه العالم ومؤسساته السياسية والاقتصادية والأمنية ؟
............................................................
3- خريطة النفوذ وخريطة الجغرافيا :
هناك خريطة نسميها خريطة النفوذ ، بينما هناك خريطة أخرى نسميها الخريطة الجغرافية :
صدام حسين حين غزا الكويت نظر إلى الخريطة الجغرافية، فرأى فيها بلدا صغيرا ضعيفا يمكن مداهمته .. بينما في خريطة النفوذ كان ذلك البلد يعني أمريكا ..
لذلك فحين نتحدث عن إضعاف فرنسا ، فلا يجب أن نمارس الصبيانية والبساطة لنفرح بقرار استيراد سيارات ألمانية على حساب الفرنسية .. بل يجب أن ننظر إلى أنّ خطر فرنسا ليس متمثلا فقط في وكلائها في الجزائر .. بل هو محيط بنا من كل ناحية ، ومن كل حدودنا خاصة الجنوبية ، حيث نفوذ باريس في القارة الأفريقية .. وحيث يتم استغلال الفقر الأفريقي لتوجيه سياسات تلك البلدان الفقيرة بالمال ، لتلعب دور المرتزق والجار السيء أحيانا ..
معمر القذافي رحمه الله أدرك هذا ، فحطم الحصار المضروب عليه ، بشراء دول أفريقيا بالمال ، للحصول على قرار واغادوغو ببوركينافاصو في 9-9-1999.. لتقوم هذه الدول بخرق الحظر الدولي المفروض على الجماهيرية ..
ولحد الآن ، يبدو أن فرنسا لم تلعب أوراقها (القذرة) في تحريك محيط الجزائر ..
........................................................................
4- مركزية وعمودية المتابعات للفساد:
يجب على السلطة أن تدرك أن موسى عليه السلام حين أرسله اله إلى فرعون ، طلب منه أن يريَه وجهه ، ليطمئن ..
ذلك لأنّ الاقتناع والاندفاع الحماسي والامتلاء بالفكرة ، هو عادة ما يحقق نجاحها ..
ولعل من الواجب على السلطة أن تدرك أنّ هناك حماسا شعبيا تجاهها بدأ يفتر ، بينما يعود للانتشار الكثير من اليأس والإحباط، وسؤال الناس : ماذا تحقق ؟
الاعتقالات ليست كافية ، لأنها تأخذ منحى (عموديا ) لا (أفقيا) .. أو بالأحرى هناك مركزية لمتابعة ومحاسبة المفسدين .. بينما الإدارات والمؤسسات التي أرهقت الجزائريين لعقود ، في الولايات ، لم تصلها المحاسبة بعد كل هذا الوقت، والمعاملات البيروقراطية الاحتقارية للمواطن هي نفسها ، في المستشفيات والبلديات ، والمؤسسات الخدمية ، الكهرباء والماء ، والمديريات العقارية .. والتي يؤكد مواطنون كثيرون على أن الدولة العميقة تعتمد فيها سياسة ( التحدي والتخريب والانتقام والعرقلة) .. لدرجة أن أخبارا راجت بإقدام مديرية عقارية في إحدى الولايات على رمي مئات الملفات العقارية في مكب النفايات ، بينما الناس ينتظرون تسوية وضعياتهم بعد إيداعهم لتلك الملفات .. إلى أن استعاد بعضهم ملفه من أطفال عثروا على تلك الملفات في النفايات .
ومع غياب التوزيع (الأفقي ) الواسع لبرنامج المحاسبة والمتابعة ، لا يكاد المواطن يلمس نتيجة تعنيه في حياته اليومية ، رغم كل ما حصل من اعتقالات مركزية.
..........................................................
5 - غموض وضبابية وعودة يأس في ظل غياب التعبئة الإعلامية:
ولعل مما تتطلبه هذه المرحلة ، (التعبئة) .. ومهمة (الإعلام) في حشد المجموع الشعبي لمرافقة مشروع السلطة في بناء العهد الجديد ..
ومع غياب هذه المرافقة التعبوية ، يفتر حماس الناس ، وتأكلهم الهواجس والشكوك ، والغموض..
واجب السلطة تبديد الغموض .. وذلك لا يمكن أن يحصل بالوجوه الإعلامية التي يقوم الإعلام بتكريرها اليوم ، وهي ذاتها التي كانت عنوانا للتخدير والتهريج الإعلامي طيلة عهد بوتفليقة ..
وأمام العبث الإعلامي في القنوات التي لم تستطع مواكبة الحدث ، وفي غياب خطاب مدروس للسلطة ، وانعدام تسريبات مقصودة لها لأخبار ومعلومات معينة تخدم المسار ، يبقى الغموض يتمدّد ويستشري .. ليس فقط بين البسطاء ، بل حتى بين النخبة وأهل التحليل السياسي ..
المطلوب أن
..................................
6 - العودة إلى تكريس ( النخبوية الحزبية) بدل (الأغلبية الشعبية) :
قام عهد بوتفليقة على استبعاد الأغلبية الشعبية من الفعل السياسي ، واستدعاء الجماهير فقط في المواعيد الانتخابية ، لاستعمالها .. بينما كانت العملية السياسية حكرا على ديكور سياسي ، منه ما هو في الموالاة ، ومنه ما هو في المعارضة..
وكانت الأغلبية الشعبية تتوق إلى أن يكون العهد الجديد ، لما بعد البوتفليقية عهدَها .. لكن ذلك لم يحدث .. وبدل الذهاب إلى انتخابات يمارس فيها الشعب حقه السياسي ، تعود اللعبة مرة أخرى إلى ( الأحزاب السياسية) العتيقة ، عبر فتح باب (الحوار) لها ، لتستأثر بالمشهد والفعل دون الشعب ، مع العلم بأن هذه الأحزاب مجتمعة ، لا تستطيع حشد ثلاثة ملايين جزائري..
على أي أساس يرجع النظر في مستقبل الجزائر إلى نخبة حزبية سياسية موبوءة ، كانت شريكا للنظام في كل الاثم الذي اقترفه ؟
ولم يتم إعادة تأهيل هذه الكيانات الحزبية المهترئة ، في الوقت الذي كان الشارع ينتظر محاكمتها ومحوها ؟
هناك اليوم مشروعان .. مشروع للشعب الجزائري ، وهو الانتخابات .. ومشروع للأحزاب التجارية ، وهو الحوار لتقاسم الكعكة .. ولا يمكن للشعب أن ينال شيئا إن هو سلّم لهذه الأحزاب بأن تصنع له أحلامه وآماله وطموحاته ..
لذلك ، لا بد من سقوط أي حوار ، تكون أطرافه هذه الكائنات الديناصورية الموميائية المحنطة التي أكل عليها الدهر وشرب ..
.........................
7- تحويل الشركاء إلى متفرجين :
لا يكاد الشعب يفعل شيئا ، في بلورة وبناء العهد الجديد ، رغم تأكيد المؤسسة العسكرية على أنها (سترافق) والمرافقة تعني أن يكون الفعل الأساسي للشعب ، بينما يقوم الجيش بحماية ذلك الفعل ..
غير أن الذي نراه اليوم ، هو أنّ الجيش يقوم بكل شيء ، بينما لا يكاد مجموع الشعب يفعل شيئا ، سوى التصفيق والمباركة ، في المقاهي والفايسبوك .. وهو ما يحوّل الشعب من خانة ( الفاعل الأساسي) إلى خانة ( الشريك الثانوي) لينتهي إلى خانة ( المتفرّج ) الذي لا يعلم في كثير من الأحيان ما الذي يجري حوله ..
صحيح أن الشعب ارتكب أخطاء استراتيجية في حراكه ، حين كشف عدم نضجه السياسي ، بمطالبته بخطوات لا معنى لها ، جعلت الجيش يأخذ المبادرة ليطبّق أمورا أخرى ..
لكن رغم ذلك ، فإن وجود الشعب فاعلا أساسيا وشريكا للجيش ، سينفي التهمة الفرنسية التي تسلطها على الجيش وعلى قيادته حين تصفها بـ (العزلة) ..
ولا شك أن هذا الواقع سيختصر الصراع في ثنائية (مدنية) يمثلها الفرنكوبربريست ، و(عسكرية) يمثلها الجيش ..بينما تبقى الأغلبية الشعبية مجرد كتلة لا وجود لها في المشهد .. لا في الحوار ، ولا في التدافع ، ولا في غير ذلك .
وعلينا أن ندرك أن تحويل الشعب إلى مجرد متفرج ، كما كان في عهد بوتفليقة ، يعد خطرا على أي مشروع وطني ، لأن هذا المشروع سيأخذ في الأخير صورة (عسكرية) تعني ( الإلزام والتعسف والفرض) .. وهي مصطلحات لا يميل إليها العالم اليوم ..
محمد جربوعة
No comments:
Post a Comment